ثقافة مسرحية «ثورة دون كيشوت» لوليد الدغسني: من يـقطـع الحـبـل المـشـدود في رقـبـة الـدنـيـا؟
بين الأحمر الصّاخب والأسود اللئيم والأبيض المخادع تدور وقائع الخرافة الكبرى، تلك التي نقلتها مسرحيّة «ثورة دون كيشوت» لمخرجها وليد الدغسني والتي عُرضت على ركح مسرح التياترو في إطار تظاهرة «العرض الأول».
تنطلق المسرحية بمشهد على غاية من القوّة جسّدته الممثلة أماني بلعج في دور الملكة الأم بفستانها المبهر، ترتسم آلام المخاض على وجه الملكة قبل ان تضع مولودها، هذا الكائن أو العالم الذي ستتقاذفه حماقات البشر وشرورهم وانتهازيتهم منذ البدء والى يومنا هذا.
يرتكز الدغسني في عمله المسرحي الجديد، على فكرة الخرافة، فيستحضر عوالمها بكل ما فيها من رمزيّة ومن غوص في عوالم المجهول. تتداخل صور الماضي البعيد بخرافاته الأزلية مع قضايا الراهن اليومي فتتجلّى صورة ذلك «الحبل المشدود في رقبة الدنيا» والذي ظلّ منذ مئات السنين ثابتا على خلافاته وتناقضاته، فتستدعي صلابته عودة «دون كيشوت»، ذلك الفارس المغوار في محاولة جديدة لعتق رقبة العالم وتحريرها منه.

يستحضر اذن المخرج هذه الخرافة الكبرى على الركح المسرحي فيتماهى المتفرّج معها لأنها جزء من ذاكرته الحيّة (شخصية الساحرة، طرابيش المشعوذين، نار المحرقة، العربة اليدوية، النظّارات السّميكة) لكنه سرعان ما يعمل على تحطيم جانبها الأسطوري وذلك بفضل اسقاطات على واقعنا اليومي. فهذا الحبل الذي رفض تحرّر الدنيا يجب ان ينكشف لؤمه في يوم ما ولابدّ من مقصّ يقطع دابر شرّه.
ومن خلال مجموعة من اللوحات رسمها بلمسات ابداعية مميزة كل من أماني بلعج ومنير عماري وناجي القنواتي ويحي بوفايد ومنى تلمودي (في دور الصحافية)، يروي الدغسني وقائع من ماضينا القريب والبعيد، فهذه محرقة الكتب التي أعدمت فيها مؤلّفات عن إيزيس وقلقامش، وهذه محاكمة ساخرة تنقلب فيها الضحيّة الى متهمة ويلتقي فيها الممثلان ناجي القنواتي ويحيى بوفايد، في دور المحاميان، فيبدعان بالمزايدات الزائفة وبالأطروحات الكاذبة، فالخديعة ترتدي ثياب البراءة أحيانا، وهذه زيارة سريالية الى مقبرة يرقد فيها «طهورة» المدافع عن حقوق المرأة والقائد حنبعل.. وأمّا الإعلام فنال هو الآخر نصيبه من النقد بعد أن دأب على اخفاء العورات وتجميل العيوب.

الجذاذة الفنية لثورة دون كيشوت
دراماتورجيا و اخراج: وليد دغسني
انتاج: كلندستينو للانتاج المسرحي بدعم من وزارة الثقافة
آداء: يحي الفايدي - ناجي قنواتي - اماني بلعج - منير العماري - منى تلمودي
صوت: ميش
ملابس: عبد السلام الجمل
مكلف بالاعلام: سهير اللحياني
ولعلّ اللافت في مسرحية «ثورة دون كيشوت» هو الاشتغال على فكرة تفكيك الأسطورة، فلا بطل في هذه الدنيا في المطلق، ولا زعيم بلا هفوات، ولا شخصية دون نزوات ولا أفكار دون تنسيب.. تدعو المسرحية اذن الى التريث والاعتدال وعدم الانسياق وراء الكلام المنمّق والوعود الزائفة. أفليست قصّة البشرية خرافة كبرى حيكت بخيوط الخديعة ولسان النّفاق وعواء الذّئاب؟
ولأنّ الخرافة الكبرى كما قدّمها المخرج في عمله قصّة أزلية، تتسربل أماني بلعج في مشهد نهائي حالم بشراع أبيض طويل خُطّ عليه تاريخ الانسانية بهيروغليفا يصعب تفكيك شفرتها، تاريخ شاق ومبعثر يتطلب عودة دون كيشوت، فمعضلات الدهر بحاجة الى من يحاربها، ولو كان ذلك فقط من أجل بصيص أمل.
شيراز بن مراد